الفتوى والسينما المصرية- نظرة على تجليات دينية غائبة

المؤلف: د. عصام تليمة11.14.2025
الفتوى والسينما المصرية- نظرة على تجليات دينية غائبة

لم تنفكَّ السينما المصرية، عبر تاريخها الزاخر بالأعمال الفنية، عن استعراض البُعد الروحاني في طيات العديد من أفلامها، ولم تغفل كذلك عن تقديم أحد أبرز مظاهر الخطاب الديني، ألا وهي الفتوى. تجلّى ذلك في صور شتى، حيث برزت الفتوى كعنصر حيوي في النسيج الدرامي والسينمائي، لا سيما في الحقبة التي ازدهرت فيها الاقتباسات الأدبية، والأفلام التي أبدعها رواد الأدب العربي والمصري.

غالبًا ما تناولت الدراسات والأبحاث موقف الفتوى والمفتين من السينما والفنون عمومًا، إلا أن ثمة بقعة ضوء لم تحظَ بالقدر الكافي من الاهتمام، وهي: حضور الفتوى في الأفلام السينمائية ذاتها، السياقات التي تظهر فيها، مدى دقتها وموافقتها لأحكام الفقه الإسلامي، وهل كان توظيفها دراميًا مُحكمًا ومؤثرًا، أم لا؟ وما السبب وراء حضورها اللافت في الأفلام القديمة، واختفائها التدريجي في الأعمال الحديثة؟

لا أذكر مؤلفًا أو باحثًا قد تناول هذا الموضوع باستفاضة ومنهجية علمية، باستثناء ما ورد مؤخرًا في جزء من كتاب صدر عن دار الإفتاء المصرية، ضمن موسوعة "المعلمة المصرية للعلوم الإفتائية"، وتحديدًا في الجزء السادس عشر الذي تناول موضوع "الإفتاء والعلوم الاجتماعية"، في الفصل السابع المعنون بـ "الفتوى والفن".

وقد استعرض هذا الفصل بعض الأفلام التي تطرقت إلى الفتوى، دون الإحاطة الشاملة أو الاستقراء التام، وهو جهد محمود يتناسب مع حجم الدراسة المطلوبة، مع التركيز بشكل أساسي على تأثير الفتوى وعلاقتها بالفنون بشكل عام. ومع ذلك، يُعد هذا الجهد بمثابة نقطة انطلاق قيّمة، لكنه لا يزال غير كافٍ للإلمام بجميع جوانب الموضوع.

إن المتأمل في السينما المصرية وأفلامها، من منظور علاقتها بالفتوى والإفتاء، سيلاحظ وجود أفلام جعلت إحدى الفتاوى حجر الزاوية في الحبكة الدرامية، مع إيلاء اهتمام أقل لكون المسألة تتعلق بالفتوى. وعلى النقيض، نجد أفلامًا أخرى وظفت الفتوى كخيط درامي ثانوي، يضفي لمسة نهائية على الفيلم، أو يوجه مسار الأحداث بناءً على فتوى معينة، بصرف النظر عن صحة النقل أو قوة الدليل الشرعي الذي تستند إليه.

وباستثناء الصورة الكوميدية التي قد تظهر بها الفتوى في بعض الأفلام، كما في فيلم "حسن ومرقص" على سبيل المثال، حيث اضطر كاهن مسيحي للتنكر في زي شيخ مسلم لأسباب أمنية، والانتقال إلى منطقة جديدة. وعندما علم الأهالي بوجود شيخ بينهم، طلبوا منه إمامة المسجد، وذلك بحضور شيخ آخر. ونتيجة لإلحاحهم في طرح الأسئلة وطلب الفتوى، كان يجيب دائمًا: "هو الدين بيقول إيه؟" فيرد الشيخ المسلم الحقيقي المجاور له، وهكذا تحولت هذه العبارة إلى لازمة في النقاشات والحوارات التي تتضمن شيئًا من الدعابة الدينية.

أفلام بطلها فتوى

من بين الأفلام التي جعلت الفتوى محورًا أساسيًا في بنائها الدرامي، يبرز فيلم "شيء من الخوف"، الذي تدور أحداثه في قرية "الدهاشنة" التي يسطو عليها رجل ظالم يدعى "عتريس". كان "عتريس" يكنّ مشاعر لفتاة تدعى "فؤادة" منذ صغرها، ولكنها تجرأت على تحدي ظلمه وفتحت "الهويس" لري الأراضي وإسقاء الناس. عندها، طلبها للزواج، ولكنها رفضت، فقام والدها بخداع "عتريس" وإيهامه بموافقتها.

علم بذلك أحد أعيان القرية، الشيخ إبراهيم، الذي أخذ يردد بين الناس العبارة الشهيرة في الفيلم: "جواز عتريس من فؤادة باطل"، حتى قتل "عتريس" ابنه. فخرج الأهالي حاملين جثمان الابن، وهم يهتفون خلف الشيخ بالفتوى: "جواز عتريس من فؤادة باطل"، وتم كتابتها على الجدران.

أثار الفيلم ضجة واسعة عند عرضه، وكاد يُمنع من العرض، حيث قيل إن المقصود بـ "عتريس" هو الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وأن "الدهاشنة" هم الشعب المصري الذي سينتفض يومًا. ومن المعلوم تاريخيًا أن قضايا الأسرة والأحوال الشخصية استُخدمت في التلميح إلى الشأن السياسي، كما حدث في فتوى الإمام مالك في طلاق المكره، والتي فهم منها الشعب أنها قصدت بيعة الحاكم التي كانت تؤخذ بالإكراه.

أما الفيلم الآخر، فهو "الزوجة الثانية"، الذي اشتهرت فيه فتوى باطلة، بينما لم ينتبه الكثيرون إلى الفتوى الصحيحة. تدور أحداث الفيلم حول عمدة القرية الذي لم يرزق بأطفال، فأجبر فلاحًا على تطليق زوجته لكي يتزوجها وينجب منها، وينسب الولد له ولزوجته الأولى. وعندما أجبره العمدة، كان شيخ البلد يردد: "وأطيعوا الله، وأطيعوا الرسول، وأولي الأمر منكم"، معتبرًا ذلك فتوى في طاعة الحاكم. وقد اشتهرت هذه العبارة وأصبحت لازمة في التاريخ المصري الحديث، حيث يسخر الشعب من أي مفتٍ بقولهم: إنه مثل فلان في الفيلم، ويكررون نفس العبارة.

غفل الناس عن فتوى أخرى أكثر أهمية وخطورة في الفيلم، وهي الفتوى الصحيحة التي بنت عليها الفلاحة – المطلقة بالإكراه – خطتها للانتقام من العمدة الظالم. فقد ذهبت لزيارة مسجد الحسين، ورآها أحد الشيوخ تبكي، وعندما قصت عليه قصتها، قال لها: "هذا طلاق باطل، ولا تزالين زوجة لزوجك". واستنادًا إلى هذه الفتوى، حملت المرأة من زوجها المكره على الطلاق، وأنجبت، وهو ما أدى إلى وفاة العمدة حسرة وشللًا، ونهاية ظلمه، وسعيها لإقامة العدل وإعادة الحقوق إلى أهلها في القرية.

لم يتم التركيز على هذه الفتوى الجوهرية التي اعتمدت عليها السيدة في الفيلم، بينما انصب الاهتمام على فتوى لم تخرج من أهل العلم. فشيخ البلد قديمًا كان منصبه إداريًا وليس دينيًا، بينما من أفتاها في مسجد الإمام الحسين كان فقيهًا، وأرشدها إلى حكم الدين الصحيح، وهذا ما بنى عليه الفيلم حوادثه المثيرة.

أفلام ختمت بفتوى

من الأفلام التي ارتكزت نهايتها الدرامية على فتوى، سواء كانت رأيًا راجحًا أو مرجوحًا، نجد العديد منها قد استندت إلى قول مشهور، يمثل رأيًا فقهيًا من المذاهب الأربعة، وليس رأي الجمهور أو الراجح بقوة الدليل. ومن الأمثلة على ذلك: فتوى تحريم الزواج على الابن بمن زنى بها والده، أو تحريم الزواج على من زنى بالأم بابنتها، وهو قول موجود في المذهب الحنفي.

كان كتّاب السيناريو قبل ذلك لديهم قدرة في الارتباط بقضايا الواقع الاجتماعي والديني، على خلاف ما طفا على سطح الأعمال الفنية منذ عدة سنوات، فأصبحت معظم الأفلام تغرق في الحديث عن الجريمة والمخدِّرات

وبما أن قانون الأحوال الشخصية المصري يتبع المذهب الحنفي، فقد ذاعت هذه الفتوى في السينما المصرية، وتكررت في أكثر من عمل فني. فقد ظهرت في فيلم "رجال بلا وجوه"، حيث أراد الأب منع ابنه من الزواج بامرأة ليل تابت وأحبته، فلجأ إلى الكذب وادعى أنه زنى بها، ثم اعترف له بالحقيقة بعد فترة. وكذلك في فيلم "فرحان ملازم آدم"، الذي انتهى بعدم زواج البطل بالبطلة بسبب زناه مع والدتها.

وبالمثل، تناولت بعض الأفلام مسألة "بيت الطاعة"، الذي يلزم الزوجة بالإقامة في بيت الزوج، وغالبًا ما يتضمن ذلك إهانة وإذلالًا من قِبل الزوج، حيث تُقاد الزوجة إلى بيته بواسطة عسكري وبحكم قضائي، وهو تصرف مهين يسيء إلى مكانة الأسرة في الإسلام. وقد استنكر هذا الأمر عدد من العلماء، وطالبوا بتغييره، فبيت الطاعة هو فتوى صادرة عن رأي فقهي في سياقه وزمانه.

بعض الأفلام كانت تختتم مشاهدها الأخيرة بفتوى، تاركة الإجابة والحل للعلماء والقانون، كما في فيلم "عتبة الستات"، الذي تدور أحداثه حول ضابط شرطة لا ينجب، وكان يوهم زوجته بأنها السبب. ورغم حصولها على تعليم عالٍ، وأن والدها مستشار في المحكمة، إلا أنها رضخت للضغط الاجتماعي، وذهبت إلى الدجالين، الذين يلجأ الكثير منهم إلى وضع حيوانات منوية على قطعة صوف، ثم يقومون بتخدير المرأة وتخصيبها بها.

وبالفعل حملت السيدة، وعندما أخبرت زوجها ليفرح بالخبر، صدمها بأنه عقيم، واتهمها بالزنا والحمل الحرام. وبعد سعي مُضنٍ، اكتشفوا الحقيقة، وفي المشاهد الأخيرة من الفيلم، قال المستشار (والد الزوجة، الذي جسد دوره الفنان أحمد مظهر) إن هذا الحمل يُسمى شرعًا "حمل سفاح". فطلبت الزوجة إجهاضه، ولكنه رفض قائلًا: "حرام، لا يجوز إسقاط الجنين". فسألته: "وإذا أنجبته، والزوج يرفض الاعتراف به، فإلى من يُنسب؟" فأجاب: "يُنسب إلى أمه". وينتهي الفيلم بصراخ المرأة: "أعمل إيه؟"، وتكررها ثلاث مرات.

لا أعلم السبب وراء اختيار كاتب الفيلم لهذا الرأي الفقهي، وهل استشار فيه جهة فقهية، أم أنه بنى هذه الخاتمة على ثقافته الدينية الشخصية؟ فكاتب الفيلم هو الأستاذ محمود أبو زيد، والخط الديني حاضر في معظم أفلامه، فبعضها يختتم بآية قرآنية تعبر عن الموقف، كما في فيلم "العار" الذي كتبه أيضًا. ولكن الرأي الفقهي الذي اعتمده في فيلم "عتبة الستات" ربما كان فيه سعة أكثر من الموقف الذي تبناه، وربما أراد من خلال هذه النهاية فتح باب النقاش حول مثل هذه الحالات.

أسباب الغياب

هذه نظرة عامة على حضور الفتوى في السينما المصرية، في بعض تجلياتها. والناظر إلى حال السينما في السنوات الأخيرة، لن يجد له أثرًا، ولا حتى لمساحة مهمة للدين. بل قد نجد استخدامًا لمصطلحات دينية في غير موضعها، أو فيما لا يجوز استخدامه، كما في عنوان فيلم "خيانة مشروعة"، فالخيانة لا يمكن أن تكون مشروعة بأي حال من الأحوال.

أحد الأسباب الرئيسية لهذا الغياب هو أن السينما في الماضي كانت تعتمد على روايات كتبها أدباء كبار، أصحاب أقلام راسخة ومتعمقة في دراسة الواقع، الذي لا ينفصل عن الدين والفتوى، كما في روايات نجيب محفوظ، وإحسان عبد القدوس، ويوسف إدريس، وغيرهم.

كما أن كتّاب السيناريو كانوا يتمتعون بقدرة كبيرة على معالجة قضايا الواقع الاجتماعي والديني، على عكس ما نراه في الأعمال الفنية الحديثة، حيث أصبحت معظم الأفلام تركز على الجريمة والمخدرات، ليس بهدف معالجتها، بل لجذب المشاهدين، حتى لو لم تكن تعالج قضية مؤثرة في المجتمع. بالإضافة إلى سرقة بعض الأفكار من أفلام أجنبية تتناول قضايا مجتمعاتها.

وعلى الرغم من أن الاقتباس من الأدب العالمي كان موجودًا في السابق، إلا أنه كان يتم نقله مع تكييفه ليناسب مجتمعنا، كما في رواية "الجريمة والعقاب" لدوستويفسكي، التي تم تمثيلها عدة مرات في السينما المصرية بأكثر من عنوان، ولكن مع ربطها بواقعنا الديني، بل تم وضع آيات قرآنية في سياق الحوار. وهذا ما حدث أيضًا في رواية "البؤساء" لفيكتور هوغو، التي تم تمثيلها في أكثر من فيلم مصري، مع إضفاء الصبغة المصرية والهوية الدينية للمجتمع عليها.

لا شك أن موضوع الفتوى والسينما يستحق بحثًا مستفيضًا، وهدفنا هنا هو لفت الانتباه إليه، وتحفيز الباحثين المهتمين على استكشافه بعمق، والتأمل في مدى تأثير الفتوى في الفن، وتأثير الفن في الفتوى. ومقال موجز كهذا لا يمكن أن يغطي جميع جوانبه، ولكننا أشرنا إليه ببعض اللمحات المهمة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة